عبد السلام الرجواني
الاختلاف من طبيعة الأشياء وكنه الوجود الطبيعي والاجتماعي والثقافي، وفي الاختلاف رحمة، ان قاربناه ودبرناه على نحو عقلاني، وجعلناه موضوعا للحوار الديمقراطي المستند إلى الإقناع والاقتناع والاستعداد للإنصات، وقد يكون مصدر قسوة وفتنة ان حاد عن الصواب في القول والفعل، وتحكمت في ممارسته القوة الغضبية ونوازع الذات الجامحة إلى بلوغ غاية ذاتية ولو على جثة من تراه أو تتخيله كابحا للطموح.
الاختلاف سنة الحياة : اختلاف التضاريس والانظمة البيئية والفصول،اختلاف الحضارات والثقافات والاجناس البشرية والأنظمة الاجتماعية وانساقها الفرعية، اختلاف الفلسفات والاديولوجيات والديانات. ولولا الاختلاف لما كان التنوع والتطور والاجتهاد ولساد الجمود والرأي الواحد وانتصرت ثقافة الاستبداد..وحتى لا يتحول الاختلاف إلى نزاع يزرع الفوضى التي تؤدي حتما الى تفكك الكيانات بغض النظر عن طبيعتها وحجمها، أبدعت الإنسانية مؤسسات وآليات لفض النزاعات أو الحد منها على الاقل، من قبيل مجلس الجماعة ومجلس الحكماء ولجنة التحكيم ومؤسسات الوساطة والقضاء وغيرها حسب طبيعة المجتمعات وثقافتها وأعرافها.
وإذا كان الصراع السياسي تكثيف لكل الصراعات التي تخترق المجتمعات بين قوى اجتماعية متناقضة مصالحها واختياراتها، كما يمكن أن تخترق الحزب الواحد لاعتبارات فكرية أو تنظيمية، اهتدى منظرو العمل السياسي ذوو التوجه الديمقراطي،إلى آليات داخلية تضمن التعدد ضمن الوحدة وتكرس الوحدة التي لا تلغي الاختلاف، ووضعت ضوابط تمنع تحول اي اختلاف إلى خلاف ثم إلى نزاع. وهكذا تم سن مفهومي الأغلبية والأقلية، وموقعي التدبير والمعارضة، والتوزيع النسبي للمسؤوليات على أساس التوافق، والاحتكام إلى التصويت. ويعتبر الحوار الديمقراطي المدخل الأساس لسن هذه الصيغ الممكنة لتدبير الاختلاف. من المؤكد أن تمثل هذه المفاهيم وأعمالها على أرض الواقع يتطلب وعيا سياسيا راقيا، وأخلاقا سياسية رفيعة، وإيمانا عذريا بالوحدة، والتزام الجميع بقواعد الديمقراطية ونتائج اعمالها بدل التشكيك فيها والانقلاب عليها أن جاءت معاكسة لطموحنا. صحيح أن العمل السياسي مجال يصعب فيه الفصل بين الذاتي والموضوعي لأنه مجال التنافس والتدافع بين ذوات لها دوافع ومصالح ومطامح شخصية ليست بالضرورة مطابقة لمصلحة وفلسفة الذات الجماعية،خاصة في زمن سياسي تراجعت فيه مكانة الفكر والانتماء الأيديولوجي في الحقل السياسي. ان الاحتكام إلى الديمقراطية السليمة وحده كفيل بضمان التوازن بين الذات والموضوع دون تفريط في وحدة الكيان ولا في حرية الرأي.
لكن من المؤسف أن كثيرا من الأحزاب الديمقراطية ببلادنا وفي غيرها من البلدان ذات الديمقراطية الناشئة، لم تنجح في تطبيق الانموذج الديمقراطي على الوجه الاكمل في التعاطي مع خلافاتها الداخلية، لا سيما حينما يتعلق الأمر بتدبير توزيع السلطة ومنافعها اوانتخاب القيادة وتجديد الزعامة. يكفي أن نلقي نظرة سريعة على المشهد الحزبي المغربي الراهن، وان نستحضر تاريخ الانشقاقات التي طالت الأحزاب الديمقراطية، لنستنتج أن مجتمعنا السياسي لا يقل انقسامية عن النسق الاجتماعي/الثقافي في كليته حيث ينتصر الانتماء ماقبل السياسي، عشائريا كان أم قبليا ام فئويا، على الانتماء الفكري والسياسي. نعم لم تقدر المؤسسات الحديثة من أحزاب ونقابات وجمعيات أن تتخلص من سمات المجتمع القبلي لاعتبارات موضوعية متصلة باستمرار البنيات الذهنية لدى فئة واسعة من نخبتنا السياسية.
إذا ما توقفنا عند تاريخ الاتحاد الاشتراكي( الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سابقا)، سنلاحظ أن هذا الحزب الوطني التقدمي الديمقراطي عاش على امتداد تاريخه النضالي، موازاة مع صراعه مع النظام، صراعات داخلية انتهت إلى انشقاقات متفاوتة الأهمية ومختلفة من حيث الأسباب والدواعي المعلنة. اختلف الاتحاديون اولا حول الطريق إلى التغيير: عنف ثوري ام نضال ديمقراطي؟،وبعدما حسم الأمر لفائدة الاختيار الديمقراطي،اختلفوا حول مفهومه ومضمونه: الأولوية للنضال من داخل المؤسسات ام للنضال الجماهيري؟ ثم اختلفوا حول التوافق والتناوب،ثم حول تدبير الشرعية الديمقراطية ومخرجاتها،وها نحن اليوم نشهد توترا جديدا،ظاهره تنظيمي/موضوعي وجوهره تموقعي/ذاتي. وفي كل الحالات، ومهما اختلفنا حول أسباب الانشطار والانقسام، هناك حقيقة مريرة عنوانها الصادم: الفشل في تدبير الاختلاف وحل النزاعات.
لا يتسع المجال لقراءة شاملة لكل التجارب الانشقاقية الأليمة التي لم تؤد ابدا إلى فرز طبقي وسياسي، أو نضج ثوري، او تصحيح للخط السياسي، او خلق بديل واعد، كما ذهب إلى ذلك قادة الانشقاقات، كل حسب سياق سياسي وحزبي خاص، واكتفي بالتوجه إلى الاخوة والأخوات أعضاء المكتب السياسي الموقعين على بلاغ البيضاء لاسالهم سؤال مناضل بسيط لا يعلم من الأشياء إلا ظواهرها، ولا يهمه سوى إجلاء الحقيقة والانتصار للحق. سؤالي المركزي: في ما نحن (اتحاديون واتحاديات ) مختلفون؟
حسب فهمي لمضمون البلاغ وصيغته،وبناء على أحاديث أجريتها مع بعض الاخوان الموقعين على البلاغ، أكن لهم كل التقدير والاحترام سواء اتفقت معهم ام اختلفت، هناك ثلاثة قضايا وراء إصدار البلاغ:
-التراجع الشعبي والانتخابي والتنظيمي،
– منهجية التحضير للمؤتمر،
– مقتضيات المقرر التنظيمي.
بصدد هذه القضايا، أبدي الراي التالي:
1- مسألة التراجع:
لا أحد ينكر أن هناك تراجع. وقد قمنا بتشخيص دقيق وشامل للاختلالات التي يعاني منها الحزب منذ ما يناهز عقدين من الزمن، وهي اختلالات أدت، إلى جانب صراعاتنا الداخلية، إلى إضعاف الحزب، وخلصنا إلى أن المسؤولية مشتركة، ورفعنا جميعا شعار: إعادة البناء واستعادة المبادرة بعد المؤتمر التاسع، الذي كنتم من مهندسيه وصناع قراراته وقيادته، وأسهمتم بأفكاركم وأموال بعضكم في المجهود التنظيمي الذي أعقب المؤتمر وفي كل الاستحقاقات الانتخابية التي جاءت نتائجها دون المامول، وشاركتم في تقييمها. فما هو الجديد في الموضوع؟ أن كانت هناك قراءة جديدة للوضع السياسي العام والوضع الحزبي الخاص، فمن حق كل اتحادي أن يجتهد وان يقدم رؤيته للحاضر والمستقبل.
2- منهجية التحضير للمؤتمر
مما لا ريب فيه إن قرار انعقاد المؤتمر العاشر، بتاريخه ومنهجية تحضيره وتشكيلة اللجنة التحضيرية وطريقة عملها، لم يتم في الخفاء. كل القرارات، في ما أعلم، تمت مناقشتها والتصويت عليها بالإجماع داخل اللجنة الادارية،وانتم أيها الأعزاء من الفاعلين الأساسيين ومن الشاهدين،وان غبتم أو سهوتم عن أمر فتحملوا مسؤوليتكم. وان كنتم في اعتراضكم على المنهجية صادقين، وانا شخصيا لا أشك في صدقكم (ن)،فما الذي منعكم من إبداء تحفظكم يوم التصويت بالإجماع على مشاريع المقررات وأجهزة استكمال التحضير للمؤتمر. ألم يكن جديرا بكم (ن) الدعوة إلى اجتماع للمكتب السياسي أو لدورة استثنائية للجنة الإدارية لمراجعة ما يمكن مراجعته بدل إصدار بلاغ، سلبياته أكثر من إيجابياته على الحزب ولدى الرأي العام.
3- المقرر التنظيمي.
انتم أعلم الناس أنه مجرد مشروع وأنه بالتأكيد سيكون موضوع ملاحظات وتعديلات، وقد نضعه جانبا جملة وتفصيلا، ان تبين عدم انسجامه مع الاختيار الديمقراطي للحزب أو فيه ما يفيد مس بالديمقراطية الداخلية.
باختصار إذا كانت هذه هي خلفيات البلاغ فإني اعتبر أن التعاطي الايجابي معها ممكن ولا يحتاج إلى كل هذا التعب. وأضيف أنه من حق كل أخ أو أخت تتوفر فيه الشروط أن يطمح لقيادة الحزب، وما عليه(ها) سوى أن يعد نفسه للمنافسة التي يجب أن نوفر لها كل شروط النزاهة.
فلنجعل من الاختلاف رحمة بدل أن نجعل منه رصاصة الرحمة