عبد السلام المساوي
يوم السبت 11 فبراير 2017، لم يكن يوما عاديا، لم يكن يوم استراحة للترفيه الأسبوعي، بل كان يوم تأمل وتفكير بالنسبة للاتحاديات والاتحاديين… كان يوما لتأسيس لحظة تاريخية وطفرة نوعية في صيرورة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية… كان يوما لانطلاقة أشغال اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني العاشر… وتميز هذا اليوم بالكلمة التوجيهية التي ألقاها الكاتب الأول الذي أكد على أهمية هذه المحطة المفصلية باعتبارها حدثا سياسيا كبيرا في المسار التاريخي للحزب وما راكمه من نضالات وتضحيات جسام، من أجل تعزيز التوجه الديموقراطي، وتقوية البناء المؤسساتي، وإقامة منظومة مجتمعية قائمة على المساواة والحركة والعدالة والاجتماعية، وباعتبارها أيضا فضاء جماعيا للاتحاديات والاتحاديين للتفكير السياسي الرصين، وإنتاج الأفكار السياسية ذات البعد الاستراتيجي، سواء على مستوى تأمل الذات الحزبية أو على مستوى معالجة التحديات المجتمعية الكبرى، أو على مستوى تقديم البدائل والحلول الناجعة…
في نفس اليوم، وفي الوقت الذي كان فيه ادريس لشكر يوجه أخواته وإخوانه نحو المستقبل بالتفكير بعمق والاهتمام بالأسئلة العميقة المرتبطة بطبيعة التوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتهاد في تقديم أجوبة مقنعة، في إطار تصور اشتراكي ديموقراطي متماسك، لما تطرحه مختلف قضايا المجتمع والمرحلة الراهنة والمقبلة… كان بنكيران في بوزنيقة أمام برلمان حزبه، ينتج لغو الكلام ويرسل شطحاته… لم يتكلم عن الترتيبات الزمنية والتنظيمية للمؤتمر الوطني الثامن لحزبه، ولا عن الأسس الفكرية والتوجهات السياسية… فمريدوه الأوفياء لليتم الفكري والفقر السياسي سيقومون بالمهمة… تمديد الولاية من مثنى إلى ثلاثى فرباعى… وتكلم بنكيران عن الاتحاد الاشتراكي، تلميحا وصراحة، واعتبره معرقلا لتشكيل الحكومة… بؤس المرحلة… في كل مرة يسقط بنكيران فشله على غيره، هذا الغير المتحول من مناسبة إلى أخرى…
لم يحك نكتا ودعابات كعادته.. لم يغمز أو يلمز.. لم يطلق ضحكته المعهودة… تكلم بنبرة محبطة وبملامح كئيبة، وهي علامات كافية، لتقول لنا بأن أمور تشكيل الحكومة ليست على ما يرام إطلاقا.
لم يتحدث بنكيران عن الأشباح ولا عن العفاريت ولا عن التحكم، فقد ترك وراءه قاموس ابن المقفع، وحمل حزب الاتحاد الاشتراكي فشله –إلى حدود الساعة- في تشكيل التحالف، الذي من المنتظر أن يكون الأغلبية الحكومية.
الملاحظ أن بنكيران، رئيس الحكومة المكلف، يبحث دائما عن مبررات واهية لتبرير فشله في تشكيل الحكومة، وبحث دائما عن مشجب يعلق عليه هذا الفشل، قوى خفية أو ظاهرة، أحزب وزعماء… فمن حزب الأصالة والمعاصرة إلى حزب التجمع الوطني للأحرار إلى حزب الحركة الشعبية فالاتحاد الاشتراكي… ومن إلياس العماري إلى أخنوش وأخيرا ادريس لشكر!!
بنكيران يتوهم، أو يوهم الرأي العام، أن الخطأ موجود هناك، بعيدا عنه، في الضفة الأخرى، وحين يعجز عن تفسير فشله للمغاربة يلجأ لأكثر الفرضيات حمقا، لكي يجد فيها مبرراته الواهية، ولكي يحاول عبرها وبها لعب دور الضحية.
وسنحاول في هذه الورقة أن نسقط القناع عن بنكيران، نبرز تهافت مبرراته ونكشف عن الأخطاء القاتلة التي ارتكبها والتي أدت إلى “البلوكاج” الحكومي. ولنبدأ من البداية، يوم الاثنين الموالي للجمعة، أي ثلاثة أيام فقد بعد إعلان النتائج كان بنكيران مجددا في المنصب إياه الذي بكى لأجله في أكثر من مدينة مغربية خلال الحملة، والذي قال لأجل الوصول إليه في الخصوم، ما لم يقله في العتيق من المدام الإمام الذي لا يفتي وهو في المدينة، مالكنا جميعا رضي الله عنه وأرضاه، ومن هنا ابتدأت الحكاية.
اكتشف الرجل بأنه ملزم بأن يصنع حكومة مع ومن أولئك الذين قال لنا عنهم كل ذلك الكلام. المشهد لم يكن سورياليا فقط، بل كان العبث بعينه، سائرا نحو كثير من عدم العقل والاتزان، والبعد الكامل عن أي منطق سليم يسير الأشياء: نأتي إلى الحملة الانتخابية ونقول عن هذه الأحزاب أنها كلها فاسدة، وأنها تسير في فلك التحكم، وتدور فيه، ثم عندما نرغب في تشكيل الحكومة، نلجأ لنفس الأحزاب التي أمضينا معها الخماسية كلها في شد وجذب وضرب كثير تحت الحزام –بالكتائب وبغيرها- لكي نطلب منها أن تعزز التجربة الديموقراطية الناشئة في البلد، وأن تساعدنا على مواصلة الإصلاح. بعد أزيد من أربعة أشهر من التعيين، وبعد أكثر من أربعة أشهر من الحملة، وبعد أكثر من خمس سنوات من القصف الشديد، هل “حاول” بنكيران على لسانه لكي يستطيع الحجر عليه؟
ومنذ بداية المشاورات بدا أن بنكيران كان أول من سن منهجية الاصطفاف، اختياره لتعاقد قبلي مع التقدم والاشتراكية فكك دفوعاته عن أحادية المشاورات، بل وبدا اختياره مستفزا، فنتائج حليفه كانت كارثية، وبدا فرضه كصاحب العرس مستفزا لباقي شركائه، قبل أن يضيف إليه اصطفاف آخر، من خلال سن عرف “الكلمة” التي عقدها مع حزب الاستقلال. ما سرب من بعد من أنه مكافأة لزعيم الحزب حميد شباط الذي أسقط ما سمي بـ”مؤامرة” الانقلاب على الشرعية الانتخابية، لم يقدم للرأي العام بكل الوضوح، وتحول إلى همز ولمز صب كثيرا من الزيت على النار الدفينة للمفاوضات، وكان من نتائجها الإضرار بمصلحة حزب الاستقلال نفسه، الذي وجد نفسه في مواجهة خصوم داخل سباق تشكيل الحكومة.
الثرثرة والتسريبات داخل حزب رئيس الحكومة ساهمت في خلق أجواء مشحونة، كما حدث خلال استقالة صلاح الدين مزوار من رئاسة التجمع الوطني للأحرار وشروع المحسوبين على بنكيران في ترويج قراءات تعتبر إسناد رئاسة التجمع لعزيز أخنوش تحضيرا لـ”مؤامرة” جديدة ضد رئيس الحكومة، بل إن كتائب “البي جي دي” هاجمت أخنوش بضراوة، ولم ينتبه بنكيران لذلك إلى أن تلبدت أجواء المشاورات بغيوم سوء الفهم الكبير.
وبالرغم من أن رئيس الحكومة المعين، ظل محافظا على سرية تداوله مع الأحزاب السياسية في التفاصيل، إلا أن خروج وتسريب ما دار بينه وبين الرئيس الجديد للتجمع الوطني للأحرار، سيكشف عن ثقب كبير في مهمة الرئيس المكلف، إذ بدا أن التسريب يتم من الدائرة الضيقة للتفاوض، وهو ما سيشعل نارا في “دربالة” الحكومة التي لم يتم رتقها بالكامل، وتم إشعال حروب صغيرة ومتعددة.
هذا الأسلوب في إدارة المشاورات تم تغليفه بخلق منطق يتجاوز مهمة الرئيس المعين، ووضعه كخصم من خلال مسميات عديدة، منها التحكم والمحيط والمجهول، فكانت كلفة آلية التسريب لابتزاز الخصم، أحد معاول هدم مهمة التكليف.
لقد بدا واضحا أن رئيس الحكومة استسلم للتخطيط المعقد الذي كان يطبخ في الحزب لترتيب حكومة تسمح بربح مفاتيح ترتيب المشهد السياسي المفترض بعد تشكيل الحكومة، وبدا أيضا أن هم مجابهة غريمه الأصالة والمعاصرة بعد تشكيل الحكومة، كان حاضرا، وضاع هم تشكيل الحكومة في التخطيط لما بعدها، وكان أسبوع مطالبة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي بتسريع تشكيل الحكومة كاشفا لها. ضاع بنكيران بين مدح أخنوش وتشهير قياديين وكتائبه به، ولم ينفع التسريب الشهير في لي ذراع الرجل، وظل بنكيران ينتظر فاعلا اقتصاديا مؤثرا وهو يراكم النجاحات القطاعية في زيارة الملك لإفريقيا، وحين عاد التفت لتنظيمه الحزبي أكثر مما التفت للقاء بنكيران، وبدا واضحا أن استراتيجية التحكم بدأت تتفتت، لم يعد إلياس العمري الحصان الأسود، بل تحول الخطاب من التحكم إلى امبراطورية الغاز والمال.
في تصريح واضح قال رئيس الحكومة المعين، إنه رفض طلب ادريس لشكر لإعلان الحكومة، بعد ضمان أصواته العشرين، والتي أعطت نفس الأغلبية العددية التي انتهى إليها العرض الأخير لتشكيل الحكومة من الأحزاب الأربعة (الأغلبية السابقة)، والتي عجلت بإنهاء المشاورات، وبدا أن بنكيران يعيش تناقضا غريبا.
إقصاء حزبي الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي، تحول لدى خصومه إلى حجة تكوين أغلبية مريحة سبق له أن تشبث بها، وكم بدت حجة الرجل ضعيفة، الأحزاب التي كان يفاوضها انتبهت للعبة ضربها ببعضها البعض، وتمترست في خندق واحد، وحينما بدت مقولة الأغلبية المريحة خطأ استراتيجيا ارتكبه بنكيران، وهو ما يفسر عنف بيانه الشهير بـ”نهاية الكلام”، وقد تبين اليوم تراجع بنكيران عن “نهاية الكلام” مع أخنوش والعنصر، وراح يوجه لغو كلامه نحو الاتحاد الاشتراكي وقادته!
لم تستسغ الأحزاب التي كان يفاوضها بنكيران أسلوب “سين جيم”. منذ بداية المفاوضات سن استراتيجية التقسيط في مفاوضة الأحزاب، كان السؤال الوحيد الذي يردده بنكيران في مشاورات الجولة الأولى هو “هل تشاركون، نعم أم لا؟” وحين تحاوزت بعض الأحزاب هذا الإطار تم تسريب التفاصيل.
في المرحلة الثانية استمر نفس المنطق، “تقبلون بالأحزاب المصطفة إلى جانبي ولا تفاوضوني في شأن أحزاب أخرى”، وفي مرحلة ثالثة، “الحكومة تكون من أربعة أحزاب، نعم أم لا؟”.
من الصعب على حزب يحترم نفسه أن يقبل بهكذا حوار، والإذلال الذي تحدث عنه بنكيران، مارسه على الأحزاب الأخرى طيلة مراحل التفاوض، وكانت النتائج كارثية، سقط حزب الاستقلال ضحية لشد الحبل هذا، واضطرت أحزاب أربعة للتكتل دفاعا عن نفسها، والخاتمة وضع معقد، فيه جوانب نفسية أكثر منها استراتيجية. لقد بدا واضحا تضخم الطموح الشخصي لبنكيران حيث يريد أن يكون الوجه الأبرز في الحكومة دون وجود شخصيات قادرة على مقاسمته صدارة المشهد الحكومي، فهو يريد أحزابا توفر له النصاب القانوني لتشكيل الحكومة، لكن دون أن يكون لقياداتها قدرة على التأثير في القرار الحكومي، أو سلطة مواجهة النفوذ الشخصي للرئيس.
لقد تحول بنكيران طيلة شهور “البلوكاج”، من رئيس حكومة معين ومكلف بتشكيل الحكومة، إلى رئيس مكلف بتعطيلها، وجميع التبريرات السخيفة التي قدمها حتى الآن، تكشف أنه لا يريد الخروج من النقطة الصفر. ذكاء بنكيران يتجلى في قدرته على أنه “يدير طلامس” للجمهور، فيوجه الأنظار إلى خصومه أو منافسيه، أما حكاية “قج” الدستور للتخلص من بنكيران فليست فتوى ولا اجتهادا دستوريا، بل هي نزوة تسكن البعض ممن لا يستوعب أن الدستور أهم وأكبر من شخص يسمى بنكيران. وأن تلويح بنكيران بتقديم استقالته ليس سوى واحدة من مناوراته السخيفة التي يحتاجها للتسويق لنفسه بوصفه شهيدا أمام إخوانه في الحزب والحركة، لكنه في الواقع متشبث بمنصبه بشكل مرضي إلى درجة أنه مستعد لكي يتخلى عن نبيل بنعبد الله نفسه.
بنكيران اليوم أمام سؤال واضح عليه رد واحد فقط لا غير: هل تستطيع تشكيل هاته الحكومة أم لا؟